منتدى طلبة ثانوية أولاد بن عبد القادر(الشلف)
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى طلبة ثانوية أولاد بن عبد القادر(الشلف)

تعليمي ترفيهي ثقافي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 نقائض جرير وفرزدق

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
hap




المساهمات : 16
تاريخ التسجيل : 23/05/2009

نقائض جرير وفرزدق Empty
مُساهمةموضوع: نقائض جرير وفرزدق   نقائض جرير وفرزدق I_icon_minitimeالجمعة أبريل 23, 2010 10:35 pm

1-طبقة النقائض:
عند مقاربة نصّ أدبي يجب استعمال الأدوات النقدية الأقرب من زمن ولادته وبعد ذلك إجراء الاجتهادات التي يضيفها النقاد الذين تفصلهم فترة زمنية عن هذا النص. وهذه الطريقة المزدوجة تستطيع القبض على خصوصية النص الأدبي والكشف عن مستويات القراءة التي تشكل جزءاً من اهتمامات النقد الحديث. وهذه المحاولة هي مقاربة لنقائض جرير والفرزدق مقاربة تأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل شاعر في تلاحمه مع الآخر.

وقد لفتت نقائض جرير والفرزدق النقاد منذ القديم باعتبارها ظاهرة شعرية معقدة تستحق الوقوف، وقد رويت أشعارهم وأخبارهم كثيرا وأصبحت ظاهرة النقائض من الظواهر الشعرية التي يؤرخ بها مؤرخو الأدب العربي. وتقترب في شهرتها من المعلقات التي قيلت في العصر الجاهلي.

ولعل أهم مصنف نقدي انتبه إلى مدى التشابه بين جرير والفرزدق هو محمد بن سلام الجمحي في مصنفه "طبقات الشعراء" وقد عدهم في الطبقة الأولى للشعراء الإسلاميين، يقول ابن سلام: "سمعت يونس بن حبيب يقول ما شهدت مشهدا ذكر فيه جرير والفرزدق واجمع أهل المجلس على أحدهما"(1). وهذا يبين تقاربهما في الشاعرية وعدم تغلب أحدهما على الآخر شعريا.

أ-المصطلح
يعتبر مصطلح "الطبقات" مصطلحاً نقدياً وعلمياً عرفه الفكر العربي في بداياته الأولى وهو على رغم بساطته يحاول امتلاك العدد الكبير من المعارف وتنظيمها وتبويبها وبالتالي دراستها دراسة علمية.

وكما هو معروف في فلسفة العلم والابستمولوجيا فإن من أوليات الفكر العلمي الترتيب وفق مبادئ يحددها الدارس مسبقا وعلى ضوئها يباشر درسه. وغالباً ما يكون التصنيف حسب الخصائص المشتركة بين جميع العناصر، سواء من الناحية النوعية أو من ناحية التواتر والتكرار.

وهناك دراستان تناولتا مصطلح "الطبقات" في الأدب العربي باعتباره مفتاحاً مهما من مفاتيح الدرس العلمي. الأولى هي دراسة إبراهيم حفصي تحت عنوان "أبحاث حول جنس الطبقات في الأدب العربي"(2) وقد نشرت هذه الدراسة المهمة في جزءين في مجلة "أرابيكا" Arabica (1976-ص ص227-265+1977 . ص ص1-41) ويذهب إبراهيم حفصي إلى اعتبار الطبقات جنساً أدبياً، ولكن عند تعمقنا في بحث خصائص الطبقات فإننا نلاحظ أن مصطلح الطبقات مصطلح اجرائي علمي غايته جمع مادة من المواد وفق مبدأ تنظيمي يساعد على دراستها. ورغم جدية البحث فإنه يبقى من البحوث التي تنظر إلى الأدب العربي وفق مقاييس الأدب الأوروبي. وهذا البحث في طرحه ورؤيته يقترب من بحث قدمه باحث آخر اعتبر "المحاسن والمساوئ" جنساً أدبياً.

أما الدراسة الثانية فهي دراسة حسن عبد الله شرف بعنوان "النقد في العصر الوسيط والمصطلح في طبقات ابن سلام"(3) وهذه الدراسة اعتبرت الطبقات مصطلحاً نقدياً ولكنها لم تتوقف عند بحث المصطلح وكيفية إجرائه على النصوص الأدبية التي تناولها ابن سلام الجمحي، بل ذهبت إلى تلخيص مضامين الكتاب والتعريف بأجزائه ورحلة الكتاب (من وجهة نظر فيلولوجية) وثقافة ابن سلام إلى غير ذلك مما تعرفه الدراسات التقليدية التي تهتم بكل شيء إلا موضوع دراستها. ولم يبد حسن عبد الله شرف أي رأي في المصطلح أو في طريقة الكاتب في استعمال مصطلح طبقات إلاّ من مواطن قليلة جداً. منها مثلاً أن "وضع جماعة من الشعراء في منزلة واحدة فكرة قديمة فطن إليها الأدباء الإسلاميون في أن جريرا والفرزدق والأخطل طبقة"(4). وهذه الفكرة الجزئية كما هو واضح ليست رأياً في المصطلح النقدي ولكنها تأويل له وتلخيص واختزال.

أما رأي حسن عبد الله شرف في منهج ابن سلام فقد لخصه في ثلاث نقاط يراها رئيسية وتلخص الفكر النقدي لابن سلام الجمحي: 1-الاحتجاج بشعر الشاعر –2-ما قاله العلماء حوله-3-رأيه الخاص.

أما الأهداف التي يرى حسن عبد الله شرف أن ابن سلام كان يتوخاها فهي أن يكون حجة في العربية – أن يستفاد منه الأدب- أن ينطق بحكمة أو رأي سديد +أن يجيد في التعبير.

ومرة أخرى نصادف رأياً لحسن عبد الله شرف حول كيفية إجراء المصطلح النقدي عند ابن سلام ومدى قدرته على مجابهة النصوص المدروسة. يقول: "فقد وضعهم كلا حسب طبقة شعره ونزّله منزلة من تشابه شعره بشعر نظيره من حيث التنوع والجودة"(5).

وقد انتشر مصطلح "الطبقات" كمصطلح نقدي وكمعيار نقدي لفرز الأفكار وخصائصها. وقد تدول هذا المصطلح في بيئات المؤرخين واللغويين والنحاة إلى غير ذلك من محاولات البحث الفكري والأدبي. وقد أفرزت هذه الطريقة في جميع النصوص المتشابهة عن طريق مصطلح "الطبقات" مصطلحات أخرى مشابهة منها: المعلقات: وهي مجموعة نصوص شعرية جاهلية تتقارب من حيث الجودة وتتفق في البناء الشعري وتحترم المراحل التي قننها ابن سلام وابن قتيبة وهي عبارة عن استنباطات. الحماسة لأبي تمام، المفضليات، الأصمعيات، الفحولة، إلى غير ذلك من المصطلحات التي وظفت في نفس السياق.

ولهذه المصنفات قيمة تاريخية، لأنها تحفظ النصوص ورواياتها العديدة بالإضافة إلى الكلام الذي قيل حولها، ولها أيضاً قيمة ثقافية لأنها تحافظ على التراث الأدبي والثقافي كفترة من فترات التاريخ العربي والإسلامي بمختلف ملله ونحله كما أن لهذه المصنفات قيمة أدبية ونقدية لأنها بتقديمها النصوص بهذه الطريقة فإنها تساعد على فهمها ضمن دائرتها وظروف إبداعها. فهي تحاول تركيب السياق الاجتماعي – التاريخي الثقافي لهذه النصوص وبالتالي تقدمها في علاقتها مع النصوص المجاورة لها وفي موقفها من النصوص السابقة لها والثقافة التي تتحرك في دائرتها.

فهكذا يلعب مصطلح "الطبقات" دورين: الأول كمصطلح نقدي ساعد على بلورة منهج لدراسة نصوص الأدب والثقافة العربية. والثاني: تمثل في الطريقة الإجرائية التي قامت عليها هذه المصنفات ومساهمتها في الحفاظ على نصوص التراث مع التركيز على الخصائص المشتركة بينها والعلاقات الحاصلة فيما بينها.

وقد استطاع مصطلح الطبقات أن يغطي – تقريباً- كل الحقول المعرفية المكونة للثقافة العربية الإسلامية مثل: طبقات النحويين واللغويين- طبقات الفقهاء- طبقات الشعراء- طبقات الأطباء- طبقات المؤرخين. وباشتراك عدة حقول معرفية في مصطلح إجرائي واحد دليل على علاقة القرابة بين هذه المعارف وعلى وحدة وتكامل الثقافة العربية الإسلامية.

ب-النقائض
إن مصطلح النقائص مصطلح شائع في الدرس الأدبي العربي، ولا يمكن لهذا المصطلح أن يجري مالم تتوفر مجموعة من الشروط في أكثر من نص أدبي. وهكذا لا يجوز استعمال مصطلح نقائض عند دراستنا لنص أدبي بمعزل عن نصّ (أو مجموعة نصوص) أدبية أخرى. وهكذا يتطلب المصطلح- إجرائياً- وجود أكثر من نص أدبي.

والنقائض هي "جنس" أدبي عرف في الأدب العربي بخصائصه وأشكاله وشروط إبداعه إضافة إلى مضامينه المحددة والثابتة. وهي (أي النقائض) تعتمد أساساً على تبادل الهجاء وإعلاء لجانب قبيلة على حساب أخرى ويختلف عن "الهجاء" الشائع في ترابط النصوص وتداخلها (مصطلح التناص Intertextualité هنا يأخذ كل صلاحياته النقدية والمعرفية) بالإضافة إلى اشتراكها في خصائص شكلية يجب الالتزام بها وهذا ما يراه أحمد سيد محمد عندما تكلم عن "طبيعة التكوين الفني لقصائد المباريات ففي معظمها يشترك عنصر أو أكثر"(6).

وقد كانت النقائض معروفة في الأدب الجاهلي وعندما جاء الإسلام حرمها لأسباب دينية، ولتلاحم الصف العربي الإسلامي للقضاء على النعرات القبلية، ولكن ما أن جاء العصر الأموي حتى اكتمل النضج الفني للنقائض لأسباب سياسية واجتماعية معروفة(7).

ما هي إذن النقائض؟ النقائض "جمع نقيضة مأخوذة في الأصل من نقض البناء والحبل إذا حمله والمناقضة في القول أن يتكلم بما يناقض معناه والمناقضة في الشعر أن ينقض الشاعر ما قاله الأول حتى يجيء بغير ما قال"(Cool وسنعود إلى مناقشة هذا التعريف لأحمد سيد محمد عند تحليلنا للنموذج ذلك أن هذا التعريف يمكن أن يطلق على "الهجاء" دون أن ينسحب على "النقائض" لأن ما يميز النقائض عن الهجاء هو طريقة قلب المضامين وعكسها مع استمرار الخصائص الشكلية وثباتها.

بعد هذا التعريف يعود أحمد سيد محمد إلى البحث في أصل هذا "الجنس" الأدبي وإن كان مجرّد اتجاه شعري لأنه ينتمي بكل جدارة إلى جنس أو غرض الهجاء ويحاول إعطاء بعض خصائص هذا الغرض الشعري (والغرض كمصطلح أدبي عربي يقابل المصطلح الأدبي اللاتيني الجنس). يقول عن الشاعر الجاهلي "راح يفخر على أعدائه ويهجو خصومه مقلداً ((البناء الفني للقصيدة التي أنشأها غريمه وبذلك تكونت نواة هذا الفن في العصر
الجاهلي))(9).

ولكن هذا التعريف المتبع لتطور "فن" النقائض لا يفي بكل شروط النقائض، كما أن "البناء الفني للقصيدة" لا يفي بجميع شروط البحث العلمي، بل يقدّم التعريف كمسلمَّات ثابتة في ذهن القارئ، رغم ما فيها من غموض وضبابية. ومحاولتنا هذه تتكفل ببحث هذه "الأشياء" الغامضة في النقائض ومناقشة بعض الآراء القديمة-خاصة- التي تناولت النقائض.

ونظراً للظروف الاجتماعية والسياسية التي عرفها المجتمع الإسلامي والثقافة العربية في العصر الأموي فقد نضج فن النقائض واكتمل. ويعود هذا الاكتمال إلى اشتراك عدد كبير من الشعراء، وساهمت شاعرية أكثر من شاعر بكل ما تحمله من خلفية ومن مكونات ورواسب شعرية ((وأشهر من ذلك وأعظم دوياً في عالم الأدب تلك التي تبُودِلَتْ بين جرير وخصومه وكانوا أكثر من أربعين شاعراً وفي مقدمتهم الفرزدق والأخطل والبعيث))(10).

وأظن أن اهتمام هذا العدد الكبير من الشعراء بهذا "الفن" هو الذي جعله يصل إلى أعلى مراتب الاكتمال.

ولكن الملاحظ أن هؤلاء الشعراء قد سقطوا كلهم، وذلك إما لضعف شاعريتهم أو لقصر نفسهم الشعري أو لأسباب موضوعية أخرى. وبقي الشعراء الأربعة المشهورين: الفرزدق وجرير والأخطل والبعيث، وإن كان هذا الأخير قد عده ابن سلام طبقة ثانية في الشعراء الإسلاميين.

ونرى كيف انتصر جرير على زملائه الباقين حين يقول:

أعددت للشعراء سما ناقعا



فسقيت آخرهم بكأس الأوّل



لما وضعت على الفرزدق ميسمي



وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل




ومن هذين البيتين نرى كيف بقيت شاعرية أربعة شعراء في صراع إلى أن سقط "البعيث" وهمش الأخطل- أو على الأقل انسحب من هذا الميدان- وبقي المدى مفتوحاً بين الفرزدق وجرير، فأبدعا فيه أيما إبداع ولكنهما أيضاً عملا على تعرية عورات قبيلتيهما ونقائضمها إلى درجة تدعو إلى القرف والأسف. ولطول تلازم الشاعرين (الفرزدق وجرير) تفرد كل واحد بخصائصه وموضوعاته وإن لم يخرج عن الإطار الذي حددته النقائض.

ونظراً لما تحتويه النقائض من قيم فنية وتاريخية باعتبارها سجلاً للحياة الأموية على مدى أربعين سنة من الزمن وما يعبران عن تغير في الأوضاع والمواقف، فقد جمع أبو عبيدة معمّر بن المثنى التيمي نقائض جرير والفرزدق وقد حققها ونشرها انتوني أشلي بيفان A.A.SHLEY.BEVANبريل- ليدن 1908-1909. وهي الطبعة التي اعتمدناها في إعداد هذا البحث.

ولعل الذي جعل الأخطل يتأخر عن زميليه هو أنه جاء متأخراً بالنسبة لجرير والفرزدق. وقد اعتمد ابن سلام على رواية مفادها أن ((الأخطل إذا لم يجئ سابقاً فهو سكيت... ولا سكيتا فهو بمنزلة المصلي وجرير يجيء سابقاً وسكيتا ومصليا))(11). وهذا يبين سبب عجزه أمام شاعرية جرير والفرزدق، لأنه لا يمكن أن يكون هو البادئ في كل النقائض لذلك كانت تأسره قصائد زميليه وتربط عقدة لسانه وتشلّ كل قواه الشعرية.

وهناك رواية أخرى تؤيد ما ذهبنا إليه في ملاحظتنا السابقة أوردها أيضاً ابن سلام وهي أنه ((لما بلغ الأخطل تهاجي جرير والفرزدق قال لابنه مالك انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني بخبرهما فلقيهما فاستمع ثم أتى أباه فقال جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر فقال الأخطل فجرير أشعرهما.))(12) وهذه الرواية هي الأخرى تؤكد مدى انبهار الأخطل أمام شاعرية جرير خاصة والفرزدق عامة. ولعلّ هذا هو الذي جعله يسقط بين أقدام الرّجلين.

أما عن سبب سقوط البعيث أمام جرير والفرزدق فيعود إلى انشغال الشاعرين ببعضهما دون سواهما كما يرى أحمد الشايب حيث يقول: ((كان البعيث قد سقط منذ التحام جرير والفرزدق كما قال الناس، فمعنى ذلك أن هذين الفحلين قد انصرفا عنه إلى ما بينهما)).(13) وحسب هذا الرأي الذي أورده أحمد الشايب فإن شاعرية البعيث لم ترق إلى مستوى شاعرية جرير والفرزدق لذلك انسحب من الميدان.

أما رأي ابن سلام في ذلك- وهو المصدر طبعاً- فيقول: ((كان البعيث شاعراً فاخر الكلام، حرّ اللفظ وقد غلبه جرير وأخمله وكان قد قاوم جريراً في قصائد ثم ضج إلى الفرزدق واستغاثه)).(14) وهذا يعني أن جريراً هو الذي أرغمه على الانسحاب من الميدان لأنه أولاً ليس فحلاً يستطيع أن يساجله ويقارعه شعرياً والسبب الثاني هو تحالفه مع الفرزدق ضد جرير وربما لهذين السببين جعله ابن سلام أول شاعر في الطبقة الثانية من الشعراء الإسلاميين.

وفي الآداب المعاصرة، وبتطور النثر الفني وانحسار الشعر كوسيلة تخاطب ونقل المعارف والأخبار، نشأت لعبة فنية تشبه النقائض وهي أدب الرسائل litt Epistol. إذ أننا لا نفهم رسالة دون الرجوع إلى الرسالة السابقة لها، لأنها ترجمة لها ورد على بعض الجوانب فيها، ودون الرجوع أيضاً إلى السياق الذي وردت فيه هذه الرسائل مثل رواية "ماجدولين" التي ترجمها مصطفى لطفي المنفلوطي والتي تروى قصة حبّ وذلك عن طريق الرسائل المتبادلة بين ستيفن وماجدولين، أو السيرة الذاتية لمثقفة لبنانية وكيف عاشت الأجواء والطقوس الإسبانية في كتاب "رسائل قادش" لنادية ظافر شعبان، إلى غير ذلك.

II. رحلة النَّص:
ظاهرة النقائض هي انتقال نص شعري من شاعر إلى شاعر آخر، أو من فهم ورؤية معينة إلى بيئة مخالفة. وهذا يؤكد مدى ترابط النصوص وتداخلها واشتراكها في مجموعة من الخصائص والقيم.

وهكذا يصير النصّ الواحد نصاً مشتركاً بين الشاعرين، ولا يتم امتلاكه من قبل شاعر إلا عن طريق مجموعة من العمليات الأدبية التي يخضع لها النص.

أول هذه العمليات هي التحويل، ويعني ذلك تحوّل نصّ من إطار إلى إطار أي عزله عن سياقه ورؤيته لتوظيفه في سياق جديد ورؤية جديدة وذلك ليصبح حجة على قائله الأول ومنتجه. وغالباً ما يكون التحويل هو عملية تصيّد لأخطاء وهفوات الخصم.

ثاني هذه العمليات هي الترجمة، أي ترجمة النص الأولي ترجمة شعرية وهذا يعني قلب قيمه الإيجابية وتحويلها إلى قيم سالبة. وهذه الترجمة ليست أمينة أو بريئة ولكنها ترجمة ساخرة ومشوهة للحقائق والقيم.

ثالث هذه العمليات هي النقد، لأن النقائض تعمل على نقد النصوص التي تتحرك في نفس الدائرة، نقد أفكارها وقيمها الفنية ثم نقد الأشخاص الذين تتحركون في فضاء القصيدة: قائل القصيدة بالدرجة الأولى ثم الأشخاص الذين يمدحهم الشاعر أو يذكر خلالهم، والنقد طبعا يعتبر القضية الجوهرية من النقائض.

والنقائض هي بصورة من الصور رصد لتلك الرحلة التي يقطعها النص من بداية إنتاجه إلى غاية وصوله إلى المتقبل "الأساسي" الذي هو الخصم. من هذه الزاوية نحس أن النقائض كأسلوب من أساليب التواصل وتبليغ فكرة ما تتجه باتجاه سهم مستقيم لا يحيد عن هدفه وهو الخصم. ولكن المتمعن لهذه النصوص يكتشف ثراءها، مما جعل أحمد سيد محمد يرى ((أن نقائض جرير وخصومه-مثلاً- وكأنها لون من ألوان المسرحيات الهزلية التي تقال لإمتاع الناس وإضحاكهم وكأنها تعبير عن حالة شعورية مفعمة بالسرور، سرور الممثل القادر على إمتاع جمهوره وسرور النّظارة كما تراه من نماذج بشرية مضحكة))(15). هذه إحدى حقائق النقائض، التي يبدو ظاهرها تطاحن وتمزيق للخصم ولكنها أيضاً تعبر عن علاقة وطيدة بين الخصمين.

وهكذا عن طريق الحديث مباشرة إلى الخصم ومنازلته شعريا، يحاول كل شاعر أن لا يجعل قصيدته وحيدة الاتجاه ولكنه بوسائل خاصة كالإضحاك مثلاً، أو البحث في حياة القبائل والأفراد، او تصوير حالة إنسانية عامة، بهذه الوسائل يحاول إشراك القارئ والمتقبل في تقبل النص الشعري.

أ-رحلة البداية:
سنحاول في هذه الفقرة والتي تليها تحليل النقيضتين رقم 65-66 حسب ترتيب أبي عبيدة التيمي، وعند تحليلنا للنموذج النظري سنحاول مناقشة هذا الترتيب وتقديم مقترحات بهذا الاتجاه.

النقيضة الأولى التي سنحللها هي نقيضة جرير (653؟ – 733) المكنى أبو حزوة المجاشعي التميمي. ويلتقي عند هذا النسب "تميم" مع خصمه الفرزدق وهذه النقيضة العينية (قافيتها عينية) تقع في سبعين بيتا، حاول من خلالها جرير إفحام خصمه والانتصار لنفسه ولقبيلته.

يبدأ جرير نقيضته بالحديث عن همومه الشخصية، وهذه هي عادته في كل نقائضه، ولعل السب في هذه النقيضة بالذات كونه هو البادئ، حسب ترتيب أبي عبيدة التيمي. وهنا ينطبق المثال العربي "الشعر بالشعر والبادئ أشعر" ذاك أن البادئ بالنقائض يصبح هو المحتكم في الخصم، لأنه يفرض عليه البحر الشعري المختار، والقافية وفي بعض الأحيان المواضيع ويجعله في موقف تحد واستنفار.

كما أن البداية، في هذه الحالة، تدخل الارتباك إلى قلب الخصم وتجعله يحاول بكل طريقة نقض طروحات الخصم ومحاولة مباراته على أرضيته أي استعمال نفس الأدوات الشعرية. وقليلة هي النقائض التي لا تلتزم البحر والقافية وهي تعد من العيوب، إلا إذا تجاهل الخصم ما قاله خصمه ويبدأ سلسلة جديدة من النقائض يجعل فيها الخصم في موضع تحدّ.

يبدأ جرير نقيضته (رقم 65) بموقف طللي وتحسر على انقضاء عهد الشباب، لأن الشباب بالنسبة له-وهو عموما- مرحلة العطاء والقدرة على الصراع في الحياة، ولهذا فضياع الشباب يتّحِدُ- في المعنى العميق- مع الأطلال التي فقدت هي الأخرى وظيفتها وصارت "شيخة" إن جاز التعبير. يقول جرير:

1-ذكرت وصال البيض والشيب شائع



ودار الصبا من عهدهن بلاقع



2-أشت عماد البين واختلف الهوى



ليقطع ما بين الفريقين قاطع




هذه النغمة الحزينة التي بدأ بها جرير هي مجرد تقليد عادة الشعراء الفحول الذين يبدأون قصائدهم بالتبرم بالحياة. ولكنه يعود ليأمل بالتئام الشمل ذات يوم ويعود الوصال إلى سابق عهده، حيث استعمل فعل أشت (من التشتت أي التفرق) وقد سبق لهذه الأمنية باستعمال لعلّ التي تدل على الرجال، ولكن نحس أنه رجاء لن يتحقق. يقول:

3-لعلك يوما ان يساعدك الهوى



فيجمع شعبي طية لك جامع




وهذا هو الرجاء الممزوج باليأس والحسرة، وهكذا اتضح لنا أن نغمة الحسرة هذه التي بدأت بالحديث عن الأطلال وما يفعله الدهر يحملها لخصمه الذي يراه سببا في فرقة الفريقين (بيت 2) والشعبين (بيت 3- والشعب لغة هو الحي العظيم). وهكذا يبدو أن للأبيات الثلاثة الأولى التي تبدو ظاهرياً طللية منحى دلالياً آخر وهو تحميل الفرزدق وقبيلته مسؤولية ما حدث من فرقة وتنافر.

وفي الأبيات التي جاءت بعد الموقف الطللي المقنع يبدأ حزنه الحقيقي عندما يتذكر زوجته خالدة. ولعلّ ما أثار ذكراه هو الأطلال نفسها (ودار الصبا من عهدهن بلاقع). هذا الرثاء يتفق تماماً مع مقتضيات الموقف الطللي كما جرت العادة في الشعر الجاهلي. ولا ننكر هنا أن بعض التقاليد الشعرية الجاهلية قد عاودت الظهور بعد أن اختفت في صدر الإسلام وغابت عن شعر الدعوة. يقول:

4-أخالد ما من حاجة تنبري لنا



بذكراك إلا ارّفض مني المدامع




وهكذا نلاحظ بكثرة استطراد جرير في مقارنة خالدة، بليلى التي لم تبادله الحبّ وتتمنع دائماً. ويركب في سبيلها الإبل راحلاً في البحث عنها (بيت6) وبعد ذلك يصف المطي (بيت7) ثم يخاطبها كأنها تعرف مكان ليلى ولكنها لا تريد أن تدلـه عليه (بيتان 8 و 9) ويصف ابتهاج الإبل بوميضي البرق واستهلالها لنزول المطر (بيت 10)، ثم يخاطب الإبل ويوجهها إلى الجهة التي يقصدها إلى أهل نجد من تهامة نازع- (بيت 11)، بعد ذلك يصف هذه الإبل وتعبها ويشبه ذفراها بالقطران بعد ذلك يصف الأجرع (بيت 13). وهذه المواضيع الشعرية التي ألمحنا إليها بسرعة لا تدخل في دائرة النقائض بل هي "مقدمات" تقليدية عرفها الشعر الجاهلي وقد حدّد مفاصلها بدقة ابن قتيبة وأزعم أن ذلك طبيعيا إذا عرفنا أن الشاعر سيخلص إلى أغراض تقليدية تتراوح بين الفخر والهجاء والمدح وفي المواضيع المذكورة آنفاً. يقول جرير:

5-وأقرضت ليلى الود ثمت لم ترد



لتجزى قرضي والقروض ودائع



6-سمت لك منها حاجة بين ثهمد



ومذعى وأعناق المطيّ خواضع



7-يسمن كما سام المنيحان أقدحا



نحاهن من شيبان سمح مخالع



8-فهلا اتقيت الله إذ رعت محرما



سرى ثم ألقى رحله فهو هاجع



9-ومن دونه تيه كأن شخاصها



يحلن بأمثال فهن شوافع



10-تحن قلوصى بعد هدء وهاجها



وميض على ذات السلاسل لامع



11-فقلت لها حِنّى رويدا فانني



إلى أهل نجد من تهامة نازع



12-تغيض ذفراها بِجوْن كأنه



كُحَيْلٌ جرى من قنفذ الليت نابع



13-الا حييا الاعراف من منبت الغضا



وحيث حبا حول الصريف الاجارع




نلاحظ في البيت 13 استعمال الشاعر لصيغة المثنى، وهذه الطريقة كانت مستعملة كثيرا عند شعراء الجاهلية، مثل قفا نبك، وصحبي… إلى غير ذلك، وهذا من باب التقليد لا غير ونلاحظ أن جريراً في البيت (14 ) يخاطب المكان على عادة مخاطبة الأطلال والأثافي. وإلى هنا نجد أن القصيدة تحاول إعطاءنا بنية مكانية منغلقة يدور فيها الشاعر وهذا الانغلاق الذي يتحرك فيه الشاعر هو مولّد الإحساس بالحزن والمرارة. ونلاحظ أن الشاعر يفتح هذه البنية المكانية المغلقة عندما يصل إلى مضارب الحبيبة التي تجشم في سبيلها الصعاب (وتهجرينا والبيد غير خواشع) في هذه الصورة تصوير لمعاناته لمصاعب المسالك ووعورة الدرب.

تبدأ البنية المكانية المفتوحة المعبرة عن انتصار الشاعر زمن الأطلال (البنية المكانية المغلقة) وخروجه من متاهة الصحراء. يقول جرير:

14-سلمتَ وجاءتكَ الغيوث الزوابع



فانكَ وادٍ للأحبة جامع



فلم أر يا ابن القَرْم كاليوم منْظراً



تَجاوزَه ذو حاجة وهو طائع



أتَنْسَيْنَ ما نَسْري لحب لقائكم



وتهجرينا والبيدُ غُيْرٌ خَواشِع




ووصول الشاعر إلى الحبيبة يعني انتصاره على (البيد الغُبر الخواشع) وهذا يبرز حقيقتين، الحقيقة الأولى هي شجاعته وعدم خوفه من مخاطر الصحراء وعلمه بكل مسالكها ومتاهاتها، والحقيقة الثانية هي حبّه لليلى وتحمله في سبيلها الصعاب، وعندما تتأكد له هاتان الحقيقتان فإن ذلك يمدّه بكل أسباب الانتصار على الخصم.

وهنا بعد أن عرض نفسه كبطل لا يخاف الصحراء وكمتمرس بركوب الإبل يعلن صراحة عن هذه الشجاعة التي كانت كامنة خلال الأبيات السابقة، من هذه الزّاوية تختلف رحلته عن الرّحلة في القصيدة الجاهلية (راجع وهب رومية) وتبدو الأطلال كحقائق مقنعة (ذكر الشجاعة عن طريق استحضار لوازمها) لتتفجر في البيت 17- ويمكن أن نقول عن الأبيات السابقة إنها نشر (بالمفهوم البلاغي) والبيت 17 إنه طيّ (بالمفهوم البلاغي أيضاً)، يقول جرير:

17-بني القيْن لا قيْتُم شجاعا بهضْبة



ربيبَ حبال تتقيه الاشاجع



18-فانكَ قيْن وابن قيْنيْن فاصطبر



لذلك اذ سدتْ عليكَ المطالع




وهنا لا يعرض فقط على خصمه بل يباشره بالحديث والهجاء، فبعد أن صور نفسه بأنه ربيب حبال تتقيه الأشاجع (جمع شجاع) فإنه قد تمكن من احتلال موقف القوة.

وأول عنصر من تجليات الهجاء والتعريض بالخصم نلاحظه في استعمال الشاعر بنى القين. وهذا لقب عرف به الفرزدق وذلك لأنه كما زعم يعود إلى أنه كان ابن عبْد ويتضح ذلك في البيت الذي يليه (بيت 18) عندما يقول فإنك قيْن وابن قيْنيْن، أي عبد ابن عبْديْن. ونلاحظ المواجهة المباشرة عند استعماله لضمير المخاطَب. ويستعمل، بعد ذلك، جرير أسلوب السخرية عندما يقول "فاصطبر لذلك إذ سدّت عليك المطالع" وذلك ليعزيه عن أصله الوضيع. وفي استعماله لفعل "اصطبر" فإنه يريد أن يسرّب إلى نفس خصمه الاستسلام واليأس. وبعد أن يقذف اليأس والاستسلام في نفس خصمه يحاول جرير أخذ الموقع الأعلى وذلك بافتخاره بشجاعته (بيت 19) ويجهره بشعره (بيت 20) وذيوعه بين الناس ثم يقارن بين سرعة إبله وهي تقطع الصحراء وسرعة انتشار قوافيه (بيتان 21-22). يقول جرير:

19-ولما رأيتُ الناس هرّت كلابهم



تشيعتُ إذْ لم يَحْمِ إلا المشايعُ



20-وجهَّزْتُ في الآفاق كلَّ قصيدةٍ



شَرودٍ وَرُودٍ كلَّ ركْب تُنازِع



21-يجُزْنَ الى نجْران من كان دُونَه



ويَظهَرْن في نجْدٍ وهنَّ صَوادِع



22-تعرض أمثَال القوافي كأنها



نَجائب تعلو مِرْبَدا فتطالع




ولكي يفتخر بنفسه ويوقع الإرباك في نفس خصمه، فإنه لم يصرّح بذلك كأن يقول مثلا أنا شجاع أو بطل، أو انا شاعر مغلَّق، بل وصف نفسه "بالمشايع" والمشايع هو الجريء المقدام، وانتشار قصائده بشرود البعير الذي لا يردّه إلا الورود أي أماكن الماء (كل قصيدة شرود ورود). وهكذا يعطى جرير لنفسه صفتين كفيلتين بإفحام الخصم والقضاء عليه، فأولاهما هي شجاعته وإقدامه وثانيتهما هي شاعريته وانتشار شعره في كل الأرجاء من البلاد العربية.

وبعد أن يلقي الخوف والذعر في نفس خصمه فإنه يبدأ بالتهديد والتلويح بالشر حيث يقول:

23-أجئتم تَبَغَّوْن العُوام فعندنا



عُرام لمن يبغى العَرامَة واسع




ونلاحظ هنا انتقال الشاعر من مخاطبة خصمه بصفة المتكلم/ أنا إلى صيغة المتكلم الجمع نحن. ونجد أن المخاطب أيضاً قد تحول من مفرد أنت (انك، اصطبر، عليك) إلى مخاطب جمع. وهذا طبعا يدخل في اخلاقيات المبارزة وهو ما يسمى بتكافؤ القوى.

وتلويحه بالشر واصراره على ذلك يتأكد من استعماله للفظة عرام مرتين والعرامة مرة واحدة وذلك في بيت واحد ومعنى الكلمات الثلاث الشر.

يبدأ الشاعر بعد ذلك الافتخار بقبيلته (بني يربوع) والقبائل المساندة لها (قبيلة بني سعد) ومن خلال مدحه لقبيلة بني سعد نلاحظ أن لهذه القبيلة نفوذاً أقوى وجاه أوسع من بني يربوع، وإذا كانت قبيلة بني يربوع تمتلك الشجاعة والإقدام، فإن بني سعد يملكون العزة والجاه. وهذا يؤكد ما ذهب إليه الباحثون من دقة أصل جرير وعدم تملكه للجاه أو العزّ، ويبدو أثر ذلك في قوله:

24-تَشَمَّسُ يربوع ورائي بالقنا



وعادَتُنا الإقدام يومَ نُقَارع



25-لنا جبل صعب عليه مهابةٌ



منيع الذّرى في الخِند فِيّيْن فارع



26-وفي الحي يربوع إذا ما تشمَّسوا



وفي الهِند وأنيّات للضيم مانع



27-لنا في بني سعْد جِبالٌ حصينةٌ



ومُنْتَفَدٌ في ساحة العزّ واسع



28-وَتبْذَخ من سعد قُروم بِمَفْزَع



بهم عند أبواب المُلوك نُدافع



29-لِسعْد ذُرى عادية يُهْتَدى بها



ودرْءٌ على من يبتغى الدرء ضالِع




وهكذا يتأكد لنا أن جرير يحاول استجماع قوته من قبيلتين، الشجاعة من قبيلته بني يربوع (القناع- الاقدام- جبل صعب- دفع الضيم…) والعزّ والمجد يستمده من بني سعد (جبال حصينة- عزّ واسع، البذخ- الدفاع عند أبواب الملوك، نصرة بني سعد). وهذه الأدلة تكشف أن قبيلة الشاعر (بني يربوع) قبيلة شجاعة ولكنها فقيرة وليس لها جاه مما جعلها تنحاز إلى قبيلة بني سعد وذلك للاستفادة من عزها وجاهها واستكمال نقصها.

وبعد إشادته بعزِ بني سعْد فإن ذلك يخوّل لـه الانتقال إلى القطب المقابل وهو العبودية والرّق وذلك عند تعريضه بالبعيث- لأنه ابن أمة- وفي نفس البيت يعرّض بالفرزدق ويرميه بإحدى صفات العبيد وهي العزف والنفخ في الكير، ابن ذي الكيرين، الذي يصفه بالخزي والضياع، فالصفة الأولى تدل على دنو المكانة الاجتماعية والثانية على التشرد. ومعنى هذا البيت الذي جمع فيه الفرزدق والبعيث، لأنهما يلتقيان في أصل واحد وهو طبقة العبيد، يقول جرير:

30-وإنّ حمىً لم يحْمِ غيرُ فَرْتَنا



وغيرُ ابنِ ذي الكيرين خَزْيان ضائع




يقول أبو عبيدة والفرتنا اسم تسمَّى به الإماء. وهذا التلميح الذي يشبه وخز الابر، أشد تأثيراً على النفس- نفس الخصم- من الهجاء المباشر، خاصة وأنه يرمي البعيث والفرزدق بالتخاذل والجبن.

ويهجو الفرزدق ويرميه بقصور شاعريته لذلك لم يستطع الوصول إلى المجد، وبعد ذلك يتهكم جرير بغريمه ويصفه بالقرد، وهذه الصورة معروفة عند جرير لأن الفرزدق كما حدثت كتب تاريخ الأدب كان دميم الخلقة وفي البيت (34 ) يرتفع جرير بتهكمه إلى مستوى مباشر حين يخاطب الفرزدق بأنه ابن قين وأن أداته المفضلة هي "الكير" الذي ينفخ فيه حتى يتقرب من الأمراء وينال عندهم حظوة ويسليهم ويرفه عنهم. يقول جرير:

31-رأتْ مالِكٌ نَبْلَ الفرزدق قَصَّرَتْ



عن المجْد اذ لاَ يَأْتَلي الغَلْوَ نَازِع



32-تَعَرَّض حتى أُثْبِتَتْ بين خَطْمِه



وبيْن مخَطِّ الحاجبين القوارع



33-أرى الشَّيْب في وجه الفرزدق قَدْ عَلا



لَهَا زِمَ قِرْدٍ رَنَّحته الصواقع



34-وأنْت ابن قيْن يا فرزدق فازْدَهِر



بِكيِرِكَ إن الكير للقَيْن نافِع




والملاحظ أن جرير كان يتكلم عن غريمه كشيء بعيد وذلك باستعماله صيغة الغائب، ولكنه في البيت (34) يتوجه مباشرة إلى خصمه باستعماله صيغة المخاطب وذلك لاستثارته، ولكن هذا التهكم يبلغ درجة من الحدة عندما يقارن جرير عدته (القنا) بعدة خصمه (الكير)، يقول جرير:

35-فإنّك إنْ تَنَفُع بِكِيرِكَ تَلْقَنَا



نُعِدُّ القَنا والخيْل يوم نُقارِع




والملاحظ أنه قدم العدة الأولى للخصم التي هي الكير (او آلة العزف) وذلك إمعانا في التهكم به، يقابلها بالقنا والخيل التي هي عدة الشاعر (جرير) يوم النزال ويسحب هذه الصفات على ابن فرتنا (ابن الامة والعبد) الذي هو البعيث إذ يقول:

36-إذا مُدّ غَلْوَ الجَرْي طاحَ ابن فَرْتَنَا



وجدَّ التَجَاري فالفرزدق طالِع




وفي مقابل الصورة الاستلامية وخضوع الفرزدق والبعيث يعطي صورة عن شجاعة بني سعد ولا ينتظرون على ذلك أي مديح.

37-وأما بنو سعْد فلو قُلْتَ انْصِتُوا



لِتُنْشِدَ فِيهم حزَّ أنْفَكَ جَادِع




بعد ذلك يبدأ في هجاء الفرزدق محاولاً حشد كل الأدلة وذلك لتأكيد هذه الصفات لدى خصمه، ويصفه بأنه مدَّاح ذليل لجأ إلى الحجاج (من قبيلة قيس) لاستجداء الرّزق والغنى وأنه لا يملك هو وجدّه، صعصعة الا الكير وبعد ذلك يصف نساء مجاشع (ليلى، قُعْيرة، أم البعيث…) وبالتالي يهجو كل مجاشع:

38-رأيتُكَ إذْ لم يُغْنِك اللهُ بِالْغِنَى



لَجَأْتَ إلى قيْس وخدُّك ضَارع



39-وما ذاك أن أَعْطى الفرزدق باسْتِهِ



بأوَّلِ ثَغْرٍ ضيَّعَتْهُ مُجَاشِع



40-ألاَ إِنَّمَا مَجْد الفرزدق كِيرُه



وذُخَرٌ له في الجَنْبَتَيْنِ قَعاقِع



41-يقولُ لِلَيْلَى قَيْنُ صعصعة اشْفعى



وفيمَا وراء الكِير للقيْن شَافِع



42-لَعُمْري لقد كانت قُفَيرة بَيَّنَتْ



وشِعْرَةُ في عيْنيْكَ إذْ أنتَ يافِع



43-تَبيّنَ في عينيكَ من حُمرة اسْتِها



بُروقٌ ومصْفرٌّ منَ اللّون فاقِع



44-إذا أسْفَرَتْ يوماً نساءُ مُجاشِع



بدتْ سوءةٌ مِمَّا تُجِنّ البَراقِع



45-مناخِرُ ثانَتْها القُيونُ كأنَّها



أُنُوف خنازيرِ السَّوَاد القَوابِع



46-مَباشِمُ عن غِبِّ الخَزِير. كأنَّما



تُصوِّتُ في أعفَاجِهن الضَّفادِع



47-وقد قَوَّسَتْ أمُّ البَعِيثِ وأُكْرِهَتْ



على الزِّفْرِ حتى شَنَّجَتْها الأَخادِع



48-صَبُور على عضِّ الهَوَان إذَا شَتَتْ



ومِغْلِيمُ ضَيْفٍ تَبْتَغِي مَنْ تُبَاضِع



49-لقَدْ علِمَتْ غَيرَ الفِيَاشِ مُجاشِع



إلَى مَنْ تَصيرُ الخَافِقَاتُ اللَّوامِع




بعد أن فصل جرير في الأبيات (38- إلى 48 )ينهى هجاءه لمجاشع ويرميها بالقياش التي هي الافتخار بما ليس عندها وهذا يعود إلى تملكها للقين وليس للقنا (أي وسيلة الحرب).

بعد أن أعطى بعض الصفات السلبية عن مُجاشع، يعطي مجموعة من الصِفات لقبيلته متمثلة في الشجاعة (أحمر القنا والأشاجع) والحسب الكريم، والفروسية (واضرب للجبار (رئيس القوم) والنقع ساطع) والشجاعة في مطاردة الأعداء وملاحقتهم، وامتداح خصال قبيلة جرير وشجاعتهم وكرمهم الحاتمي، ويذكر حادثةٌ "أبي مندوسة مُرّة بن سفيان بن مجاشع" الذي قتلته بنو يربوع في يوم الكُلاب الأوّل وأيضاً بَيْبَة بن الحرث الجشميْ ويذكر كيف غلبوا حاجبا وعمرو بن عمرو بن زيد وابن حابس وكيف أسر بنو يربوع محرّق قابوس بن المنذر بن النعمان الأكبر، وأن الفضل في كلْ ذلك يعود إلى (البيض اللوامع). ويقول جرير:

50-لنَا بَانِيَا مجْد فَبَانَ لنَا العُلَى



وحام إذا احمرَّ القَنَا والأَشاجِع



51-أَتَعْدِلُ اَحْساباً كِرَاماً حُمَاتُها



بِاحْسابكم إِنِّي إلى الله راجع



52-لَقَوْمِي أَحْمَي في الحقيقة مِنْكُمُ



واَضْرُب لِلْجَبَّارِ والنَّقْعُ سَاطِع



53-وَاوْثَقُ عند المُرْدَفَاتِ عَشِيَةً



لَحَاقاً إذَا ما جرَّد السيفَ لامِع



54- وأَمْنَعُ جِيرَاناً وأَحْمَدُ فِي الْقِرَى



إِذَا اغْمَرَّ في المَحْل النّجُوم الطوَالِع



55-وَسَامٍ بِدَهْمٍ غَيْرُ مُنتفِضِ القوى



رَئِيسٍ سَلَبْنَا بَزَّهُ وَهْوَ دراعُ



56-عَدَسْنَا أَبَا منْدُوسَةَ القَيْنَ بِالْقَنا



وَمَارَ دَمٌ مِنْ جَارِ بَيْبَةَ نَاقِعُ



57-ونحْنُ نَفَرْنَا حَاجِباً مَجْدَ قَوْمِهِ



وَمَا نَالَ عَمْرٌ ومَجْدَنا والأَقارِع



58-ونحْن صَدَعْنَا هَامَةْ ابن مُحرِّقٍ



فَمَا رَقأَتْ تِلْك العُيُون الدَّوامِع



59-وَمَا بَاتَ قَوْمٌ ضَامِنينَ لَنَا دَماً



فَتُوفِينَا إلاَّ دِمَاءٌ شَوَافِع



60-بِمُرْهَفَةٍ بِيضٍ إِذَا هِي جُرِّدَتْ



تَأَلَّقُ فِيهِنَّ المَنَايَا اللَّوَامِع




بعد ذكر هذه الأيام من مفاخر بني يربوع، مخلدة انتصاراتها وبطولاتها، مقدسة شجاعتها، وهذه الأحداث كما هو ملاحظ تشكل نقاطاً مشعة في تاريخ أيام العرب وبؤر معاني الشجاعة والإقدام، يأتي جرير على ذكر حادثة الزّبير بن العوَّام الذي قتل بعد أن استجار بقبيلة الفرزدق ولكنهم لم يجيروه والدفاع عن الضيف أو المستجير كانت من بين القضايا المبدئية في أخلاقيات العرب، ولكن مجاشع لم تَحْم الزبير بن العوَّام وسلمته لأعدائه وذلك لجبنها.

61-لَقَدْ كان يا أولاد حَجحجَ فِيكُم



مُحَوِّلُ رَحْلٍ للزُّبَيْرِ وَمَانْعُ




ومن هذه القضية اتخذ جرير حجة وذريعة لِمُهَاجَمَة مُجَاشع وليطعن في أخلاقها. ومن خلال هجائه لقبيلة مجاشع يُعَرِّض بِنْبَيْه (بيت 66) وهو الذي كان يعين الفرزدق على جرير ويروي هجاء جرير ولكنه يُصعِّد قضية الزبير ويصف مجاشع عشية تسليم الزبير لأعدائه وكيف قضوا الليل ينجشّؤون من كثرة أكل الخزير.

62-وقد كان في يوم الحَوَاريّ جارِكُم



احاديثُ صمَّتْ مِن ثَنَاها المَسَامِع



63-وبِتُّم تَعَشَّوْنَ الخَزير كأنكم



مطلقة حينا وحينا يراجع



64-يُقَبِّح جِبْريل وُجوه مُجاشِع



وتنعى الحَوَاريَّ النُّجوم الطّوالِعُ



65-إذا قِيل أيُّ النَّاس شَرّ قَبيلَة



وأُعْظمَ عَاراً قِيل تلْك مُجاشِع



66-بني ضَمْضَم السَّوءاتِ لَمَّا أَقادَكُم



نُبَيْهُ اسْتِها سُدَّتْ عليْه المَطالِع



67-فَأصْبح عَوْف في السِّلاح وأصْبحَتْ



تَفُشُّ جُشاءَاتِ الخَزِير مُجاشِع



68-وما سَلِمتْ منْها حُوَيّ ولا نَجَت



فُروحُ البَغَايا ضَمْضَم والصَّعَاصِع




ومن خلال هذه الأبيات يراكم جرير عيوب مجاشع التي هي عيوب الفرزدق في نفس الوقت لأنه مجاشعي، فهم غدروا بالزبير بن العوام وسلموه لقاتله ويأكلون الخزير، ولا يحفظون عهدا للجار ولهم وجوه قبيحة وهم قبيلة غارقة في العار وهم أيضاً زناة، يأتي في هذه الأبيات على ذكر أسماء أهل القبيلة مثل. بنو ضمضم الذين هم بنو مجاشع ونبيه الذي كان يعين الفرزدق على جرير وعوف بن قعقاع وحوّى بن سفيان بن مجاشع وضمضم بن عقال والصعاصع صعصعة ابن ناجيةٍ وولده. وعنْ طريق حشد هذه الأسماء يراكم جرير أخطاء مجاشع ويرصد كل أخطائها وهفواتها ويحسب عليها أنفاسها وذلك قصد إفعام خصمه.

وبعد أن انتهى من ذكر عيوب مجاشع متمثلة في عدد من الأسماء تمثل بالنسبة لهذه القبيلة رموز الشجاعة والرجولة، يتوجه جرير مباشرة إلى خصمه الفرزدق مستعملاً ضمير المخاطب ويذكره بحادثة معروفة هي فشل الفرزدق في استعمال سيفه في مبارزة مشهورة وانهزم فيها:

69-نَدِمْتَ على يوم السِّباقَيْنِ بعْدما



وَهَيْتَ فلَمْ يوجَدْ لِوَهْيِكَ رَاقِع




وهكذا يتخذ جرير من وهن الفرزدق في هذه المبارزة حجة على جبن مجاشع وهو الذي دفعها إلى تسليم الزبير بن العوام:

70-فما أنْتُم بالقَوْم يوْم أفتديتم



بِهِ عَنْوَةً والسَّمْهَرِيُّ شَوَارِع




وهكذا إمعاناً في تقزيم الفرزدق وقبيلته بأنهم لم يُسَلّموا الزبير بن العوام لسبب آخر غير جبنهم وهذا مخالف لأخلاقيات القبائل العربية التي كانت تفتدي المستجير بها سواء بدمها أو بأموالها، وعن طريق هذه الأحداث يحاول جرير طعن خصمه الفرزدق، رامياً إياه بأقذع الصفات، حاسباً عليه أخطاء كل قبيلة مجاشع مذكراً إياه بأنه قين ابن عبيد قيون، ولقذف الخوف في قلب خصمه عمد إلى حشد كل صفات الشجاعة والمروءة في بني يربوع واعتبرهم أهل قينا ومجاشع أهل قيون.

ب-نهاية الرحلة:
هذه الفقرة محاولة تحليل نقيضة الفرزدق رقم (66) والتي رد بها على نقيضه جرير رقم (65) ويحاول أن يردَّ على بعض مزاعم جرير. وكنا قد رأينا أن هجاء جرير قد انصبَّ على هجاء قبيلة مجاشع وتعرية عيوبها، عيوب الرجال والنساء على السواء والواجب يفرض على الفرزدق الدفاع عن حياضها، ونقيضة الفرزدق تقع في سبعة وأربعين بيتاً عينية (قافية عين).

يقول الفرزدق (همام بن غالب بن صعصعة 641؟ – 732؟)

1-منَّا الذي اخْتِير الرِّجالَ سَمَاحَة



وخَيْراً إِذا هَبْ الرِّياحُ الزَّعَازِع



2-ومِنَّا الذي أعْطى الرَّسُول عَطِيَّة



أسَارَى تَميمٍ والعُيون دَوامِع



3-ومنَّا الذي يُعْطى المَاءيينَ ويَشْتَري



الغَوَالي وَيعْلُو فَضْلُهُ مَنْ يُدَافِع



4-ومنَّا خَطِيبٌ لاَ يُعاب وحَامِلٌ



أَغرُّ إذَا الْتَفَّتْ عَليْه المَجَامِع



5-ومِنَّا الذي أخْيَ الوَئِيدَ وغَالِبٌ



وعَمْروٌ وَمِنّا حَاجِبٌ والأَقَارِع



6-ومِنَّا غَدَاة الرَّوْع فِتْيَان غَارَة



إِذا مَتَعَتْ تحت الزِّجَاجِ الأَشَاجِع



7-ومِنَّا الذي قادَ الجِيَاد على الوَحَا



لِنَجْرَان حتى صَبّحَتْها النَّزَائِع



8-أولئِكَ آبَائي فَجِئٍني بِمِثْلِهِمْ



إذا جَمَعتْنَا يَا جرير المَجَامِعُ




يبدأ الفرزدق بتعداد بطولات ومفاخر قبيلته، ويعدد مناقبِها ففي البيتين الأوليين يرجع بمفاخر قبيلته إلى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم عندما تدخّل الأقرع بين حابس وكلمّ الرسول (ص) في أصحاب الحجرات وهم بنو عمرو ابن جندب بن العنبر بن تميم فرّد سبيهم وحمل الأقرع الدماء (هذا ما قاله أبو عبيدة)، وهكذا مفاخر مجاشع منذ اتصالهم بمحمد (ص) وأعطاهم أسارى تميم (بيت 2)

كما أن الفرزدق أيضاً يدافع عن كرم قبيلته (بيت 3) بالإضافة إلى ذلك فمنهم الخطباء الذين لهم صوت مدوي بين القبائل الأخرى، فالخطيب الذي يعنيه الفرزدق (بيت 4) هو شُبَّة بن عقال بن صعصعة والحَامِل هو عبد الله بن حكيم بن نافِذ بن بني حُوّى بن سفيان بن مجاشع الذي أبْلى بلاء حسناً يوم المربد، وهذا الرجل له من المفاخر والبطولات ما تعرفه ميادين القتال وتشهد له به.

يفتخر على جرير بما قام به جده صعصعة بن ناجية بن عقال (جد الفرزدق) عندما خرج إلى الصحراء باحثاً عن ناقتين عشراويّن، فوجد امرأة تعاني المخاض منذ ثلاث ليال، وقد أَقْسَم زوجها أن يقتل المولود (يئده) إذا كان جارية أي (فتاة) فاشتراها صعصعة من أبيها بِنَاقتيه العشراوين واستزاده الجمل الذي كان يركبه، ولكنه تركها له مع الناقتين والجمل وأوصاه بها خيراً حتى تتزوج أو يدركها الموت، وسار صعصعة على هذه الطريقة إلى أن جاء الإسلام فحرّم الوأد. وهذه القصة المنقولة عن صعصعة خلّدت كرمه ومروءته لأنه أحيا ثلاثمائة موؤدة إلا أربعا (القصة موجودة في نقائض جرير والفرزدق ص ص697-698) والقصة هي ما يشير إليه البيت (5.)

ثم يذكر الفرزدق شجاعة فتيان مجاشع (بيت 6) ويذكر الغارة التي قام بها سُلمى بن جَنْدل بن نَهْشل (بيت 7) عندما أغار على أهل نجران وما غنموا من خيل وإبل، وهذه الأفعال كلها تدل على كرم وشجاعة مجاشع.

وقدْ استعمل الفرزدق أُسلوب النشر والطي يتمثل الأول (أي أسلوب النشر) في الأبيات السبعة الأولى حيث أتى على ذكر مفاخر مجاشع مذكراً بإبطالها وأجوادها (الأقرع- شُبّة بن عقال- بنُو حوّى بن سفيان- صعصعة بن ناجية (جد الفرزدق) –سُلمى بن جَنْدل بن نَهْشَل- الأقرع بن حَابس) وكل هؤلاء الرجال لهم فضل على سمعة مجاشع وإعلائها بين القبائل..

واستعمل الفرذدق أسلوب الطّيّ في البيت الثامن عندما انتسب إلى كل هؤلاء الرجال الذين أتى على ذكر أفعالهم الحميدة متحدياً جريراً بأنه لايستطيعُ أن يأتي بمثل هؤلاء الآباء في أي مجمع من مجامع القبائل.

بالإضافة إلى استعمال الفرزدق لأسلوبي النّشر والطّي فإنه على مستوى المعنى يخصص ثم يجمع ليُبَيّن بعدَ ذلك لجرير فخره بالانتماء لهؤلاء الرجال والاعتزاز بكونه ينحدر من صلبهم، لتحقيق هذا الغرض نلاحظ أن الفرزدق قد استعمل (منّا) ثماني مرات في سبعة أبيات وهذا له دلالة لأنه يؤكد على قيم القبيلة من جهة ومن جهة أخرى استعمال (نا) الجمع لإشراك نفسه في هذه القيم وبالتالي انتماؤه لهذه القبيلة.

بعد أن أتى الفرزدق على ذكر مناقب قبيلته وخلالها بالتفصيل يعلن صراحة انتماءه (القبلى) ويصرح "أولئك آبائي"، ويتحدَّى جريراً أن يأتي بمثلهم، وباستعماله لاسم الإشارة (أولئك) بَدَل (هؤلاء) الذي يشير إلى القرب، فإنه يريد أن يشير باسم الإشارة (أولئك) إلى بُعْد الأصْل وامتداده في الزمان منذ الجاهلية (وقد لاحظنا وجود بعض القرائن، الوأد مثلاً، إلى الإسلام (أعطى الرسول بيت(2) إلى العصر الأموي، الغارات والغنائم والخطب………..)

وتتبدى سخرية الفرزدق بجرير واضحة عندما يخاطبه بازدراء وسخرية" فجئنى بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع"(بيت Cool لأنه يعرف أنه لا يستطيع (أي جرير) أن يأتي بمثل هذه الخلال عند بني يربوع ولأن جريراً قد عرف عنه دقة الأصل رغم شجاعته وشجاعة أجداده.

ويواصل الفرزدق الاتكاء على قوة قبيلته وتحقير قبيلة جرير صُعُوداً إلى أُصول القبائل العربية الأولى حتى الجاهلية والأحلافِ القبلية، ويبدو من خلال البيت (10) أن الفرزدق جبان ولا يستطيع المصارعة أو المقارعة بل يعتمد في ذلك على قبيلته والقبائل المتحالفة معها: نهشل ومجاشع:

9-نَمَوْنِى فأشْرَفْتُ العَلاَيَة فَوْقَكُم



بُحُورٌ ومِنَّا حَامِلُون وَدَافِع



10-بِهِم أعْتَلِي مَا حَمَلَتْني مُجَاشِعٌ



وأصْرَعُ أقراني الذين أُصَارع



11-فَيَا عَجَبِي حتى كُلَيْبٌ تَسُبُنِي



كَأَنَّ آبَاها نَهْشَل أوْ مُجاشِع



12-أَتَفْخَرْ أَنْ دَقَّتْ كُلَيْبٌ بِنَهْشَلٍ



وما من كليب نهشل والربائع




ويبلغ احتقار الفرزدق لجرير مداه ليصل إلى حدّ قهره وسحقه ويفتخر بعميه آل مالك: مالك بن زيد بن تميم ومالك بن حنظلة، وأن تحالف يربوع مع نهشل في الجاهلية لم يرفع من مكانتهم الوضيعة:

13-ولكن هُما عَمَّاي مِنْ آل مَالِكٍ



فأقْعِ فَقَدْ سُدَّتْ عليْك المَطَالِع



14-فإنَّكَ إلاَّ مَا اعْتَصَمْتَ بِنَهْشَل



لَمُسْتَضْعَفٌ يَا ابْنَ المَرَاعَة ضَائِع




ويواصل الفرزدق الفخر بأصوله الراقية الكريمة ونلاحظ أنه استعمل (يا ابن الكلب) وهي شتيمة بدل "كليبي" التي هي أصل جرير، وقد أكثر الفرزدق من الأسئلة الاستنكارية: وأي، وأين، واين، وأين وذلك ليجعل المكانة الاجتماعية متفاوتة بينه وبين جرير، لينتهي بأن المقارنة تكون من باب المستحيل:

15-إذَا أنْت يَا ابْنَ الكَلْب أَلْقَتْكَ نَهْشَلٌ



وَإنْ تَكُ فِي حِلْفٍ فَمَا أَنْتَ صانعُ.



16-أَلاَ تَسْأَلُونَ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْكُم



إذَا عُظِّمَتْ عِنْدَ الأُمُورِ الصَّنَائِع



17-تَعَالَوْا فَعُدُّوا يَعْلِمِ الناسُ أيُّنَا



لِصَاحِبِه فِي أوَّلِ الدَّهْرِ تَابِع



18-وَأيُّ القَبِيلَيْن الذي في بُيُوتِهم



عِظَامُ المَسَاعي واللُّهى والدَّسَائع



19-وأيْن تُقضّي المَالِكَانِ أُمُورَها



بِحَقٍّ وَأيْنَ الخَافِقَاتُ اللَّوَامِع



20-وَأيْنَ الوُجُوه الوَاضِحَات عشيَّةً



عَلَى البَابِ والأَيدي الطِوَالُ النَّوَافِع



21-تَنُحَّ على البَطْحَاءِ إِنَّ قَدَمَيْهَا



لَنَا وَالجِبَال البَاذِخَات الفَوَارع



22-أَخَذْنا بِآفاقِ السَّماءِ عَليْكُمْ



لَنَا قَمَرَاهَا والنُّجُوم الطَّوالِع



23- لَنَا مُقْرَمٌ يعْلُو القُروم هَديرَه



بِذْخ كلُّ فَحْل دُونَه مُتَواضِع




وبعد استعراض مصادر التعالي عند الفرزدق والتي هي في الواقع متأتيّة عن شيء خارج عنه لا يملك حتى التصرف فيها، بل لأنه ولد في قبيلة معينة أمدَّته بكل أسباب العزّ والدلال، بع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
نقائض جرير وفرزدق
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى طلبة ثانوية أولاد بن عبد القادر(الشلف) :: الفئة الأولى :: التعليم الثانوي :: المواد الادبية :: الادب العربي-
انتقل الى: